كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إن من أسماء الحق «القُدُّوس»، ويقال: «قُدِّس الله» أي نزه، فالله ذات وليست كذات الإنسان، وله سبحانه صفات منزهة أن تكون كصفاتك، وهو سبحانه له أفعال، ولكن قدسه وطهره منزهة أن تكون كأفعالك. فذات الحق واجبة الوجود وذات الإنسان ممكنة الوجود؛ لأن ذات الإنسان طرأ عليها عدم أول، ويطرأ عليها عدم ثانٍ، وهو سبحانه واجب الوجود لذاته، والإنسان واجب لغيره وهو قادر سبحانه أن ينهي وجود العبد. ولله حياة وللإنسان حياة، لكن أحياتك أيها الإنسان كحياة الله؟ لا.
إن حياته سبحانه منزهة وذاته ليست كذاتك، وصفاته ليست كصفاتك، فأنت قادر قدرة محدودة وله سبحانه طلاقة القدرة، وهو سبحانه سميع والعبد سميع؛ لكن سمع البشر محدود وسمعه سبحانه لا حدود له.
إذن فصفاته مقدسة، ولذلك فعندما تسمع أنه سبحانه سميع عليم فليس سمعه كسمعنا، وله فعل غير فعلنا. وعندما يقول الحق: إنه فعل، ففعله منزه عن التشبيه بفعل البشر؛ لأن البشر من خلق الله، وفعل البشر معالجة، ويكون للفعل بداية ووسط ونهاية ويفرغ من الأحداث على قدر الزمن. ونحن نحمل الأشياء في أزمان متعددة ويحتاج من يحمل الأشياء إلى قوة. ولكن فعل الحق مختلف، إنه فعل ب «كن» لذلك قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38].
أي أنه سبحانه وتعالى منزه عن التعب، فهو يقول: {كُنْ فَيَكُونُ} ولذلك قلنا في مسألة الإسراء: إننا يجب أن ننسب الحدث إلى الله لا إلى محمد صلى الله عليه وسلم، حتى نعرف أن الذين عارضوا رسول الله في مسألة الإسراء كانوا على خطأ فقد قالوا: أنضرب لها أكباد الإبل شهرًا وتدعي أنك أتيتها في ليلة؟!
إن رسول الله لم يدع لنفسه هذا الأمر، لأنه لم يقل: سريت من مكة إلى بيت المقدس «حتى تقولوا: أنضرب لها أكباد الإبل شهرًا وتدعي أنك أتيتها في ليلة».
لكن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: أُسْرِيَ بي. أي أنه صلى الله عليه وسلم ليس له فعل في الحدث.
والفعل إذن لله. ومادام هو من فعل الله فهو لا يحتاج إلى زمن؛ لذلك كان يجب أن يفهموا على أي شيء يعترضون. ولكنا نعرف أن الله سبحانه وتعالى أراد لهم أن يفهموا على تلك الطريقة؛ لأنه سيأتي أناس من المتحذلقين المعاصرين ويقولون: «إن الإسراء كان بالروح» نقول لهم: بالله لو قال محمد للعرب: أنا سريت بروحي أكانوا يكذبونه؟ تماما مثلما يقول لنا قائل: «أنا كنت في نيويورك الليلة ورأيتها في المنام» فهل سيكذبه أحد؟ لا. إذن لقد كذب العرب لأنهم فهموا أنه أُسْرِيَ به بمعنى كامل.. أي كان الإسراء بالجسد والروح معا، بدليل أنهم قارنوا فعلًا بفعل، وحدثًا بحدث، ونقلة بنقلة، وقالوا قولهم السابق. لقد جاءت هذه المسألة لتخدم الإسلام.
إذن فـ «قدوس» يعني مطهر ومنزه. وساعة ترى شيئًا مخالفًا لقضية العقل اقرنه بفعل الله، ولا تقرنه بفعلك أنت أيها العبد؛ لأن الفعل يتناسب مع قوة الفاعل طردًا أو عكسا. فإن كان الفاعل صاحب قدرة قوية. فزمنه أقل. مثال ذلك: نقل أردب من القمح من مكان إلى مكان، فإن كان الذي يحمل الأردب طفلًا فلن ينقل الأردب إلا قدحا بقدح؛ وإن كان رجلا ناضجا سينقل الأردب «كيلة بكيلة». وإن كان صاحب قوة كبيرة قد ينقل الأردب كله مرة واحدة. إذن فالزمن يتناسب مع القوة تناسبا عكسيا. فإن كثرت القوة قل الزمن. وهات أي فعل بقدرة الله فلن يستغرق أي زمن.
إذن قدس الله في كل شيء. والأرض المقدسة هي المطهرة، وذلك بإرادة الحق سبحانه، تماما كما أراد سبحانه أن تكون بقعة من الأرض هي الحرم، لا يتم فيها الاعتداء على صيد أو نبات أو اعتداء بعضكم على بعض، وهل ذلك كلام كوني أو كلام تشريعي؟ {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت: 67].
لو كانت المسألة إرادة كونية، فكان لابد ألا يحدث خلل أبدًا وألا يعتدي أحد على أحد. وما الفرق بين الكوني والتشريعي؟ إن الكوني يقع لأنه لا معارض في الأمور القهرية، فالحق يريد أن يكون عبدًا طويل القامة، فتلك إرادة كونية تحدث ولا دخل للعبد بها. ولكن إن أراد الحق أن تكون طائعا مصليا، فتلك إرادة تشريعية. والإرادة تكون تشريعية فيما إذا كان للمريد اختيار، يصح أن يفعلها ويصح ألا يفعلها؛ لكن الإرادة الكونية هي فيما لا إرادة للإنسان فيه وواقع على رغم أنف الإنسان.
والله سبحانه وتعالى يريد الحرم آمنا. وتلك إرادة تشريعية لأنه حدث أن أهيج فيه أناس ولم يأمنوا. ولو كانت إرادة كونية لما حدثت أبدًا. لذلك فهي إرادة تشريعية، فإن أطعنا ربنا جعلنا الحرم آمنا، وإن لم نطعه فالذي لا يطيع يهيج فيه الناس ويفزعهم ويخيفهم.
فمراد الله عز ومطلوبه شرعا «أن يكون الحرم آمنا».
{ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} فهل هذه الأرض المقدسة كتبها الله لهم كتابة كونية أو كتابة تشريعية؟ إن كانت كتابة كونية لكان من اللازم أن يدخلوها ولكنه قال: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 26].
إذن هي إرادة تشريعية وليست إرادة كونية. فإن أطاعوا أمر الله وتشجعوا ودخلوا الأرض المقدسة فإنهم يأخذونها، وإن لم يطيعوه فهي محرمة عليهم. إذن فلا تناقض بين أن يقول سبحانه: إنه كتبها لهم، ثم قوله من بعد ذلك: إنها محرمة عليهم، لقد كتبها سبحانه كتابة تشريعية. فإن دخلوها بشجاعة ولم يخافوا ممن فيها واستبسلوا ووثقوا أن وراءهم إلهًا قويًا سيساندهم؛ فإنهم سيدخلونها، أما إن لم يفعلوا ذلك فهي محرمة عليهم. {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 21].
وجاءت الأرض هنا أكثر من مرة: {وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض} [الإسراء: 104].
وعرفنا مراد ذلك القول. ولادقة هنا أنه سبحانه جاء بأمر السكن في الأرض لبني إسرائيل أي في الأرض عموما ومحكوم عليهم أن يكونوا قطعا ومشردين. {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا} [الإسراء: 104].
أي أنه سبحانه يجمعهم من كل بلد ويجيء بعد ذلك وعد الآخرة الذي جاء في أول سورة الإسراء: {وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا} [الإسراء: 4].
لأن الحق حينما قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1].
أي أنه سبحانه وتعالى يدخل بهذه الآية المسجد الأقصى في مقدسات الإسلام. وأوضح الحق لهم: يا أيها اليهود أنتم ستعيشون في مكان بعهد من رسولي، ولكنكم ستفسدون في المكان الذي تعيشون فيه وسيتحملكم القوم مرة أو اثنيتن وبعد ذلك يسلط الله عبادًا له يجوسون خلال دياركم ويشردونكم من هذه البلاد.
والحق يبلغنا: نحن أعلمنا بني إسرائيل في كتابهم ما سيحدث لهم مع الإسلام: {وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا} [الإسراء: 4-5].
وبعض الناس يقولون: إن هذا كان أيام بختنصر؛ ونقول لهم: افهموا قول الحق: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} وكلمة «وعد» لا تأتي لشيء يسبق الكلام بل الشيء يأتي من بعد ذلك. إذن فلم يكن ذلك في زمان بختنصر. ف «إذا» الموجودة أولًا هي ظرف لما يُستقبل من الزمان، أي بعد أن جاء هذا الكلام. ثم هل كان بختنصر يدخل ضمن عباد الله؟. إن قوله الحق: {عِبَادًا لَّنَا} مقصود به الجنود الإيمانيون، وبختنصر هذا كان فارسيا مجوسيا.
وهذا القول الحكيم يشير إلى الفساد الأول مع رسول الله بعد العهد الذي أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أجلاهم.
وهل هي تقتصر على هذه؟ يقول سبحانه: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا} [الإسراء: 5].
ولنا أن نسأل: وهل لم يفسد بنو إسرائيل في الأرض إلا مرتين؟. لا، لولا أنهم لم يفسدوا في الأرض سوى مرتين، لكان ذلك بالقياس إلى مافعلوه أمرًا طيبًا؛ فقد أفسدوا أكثر من ذلك بكثير. ولابد أن يكون إفسادهم في الأرض المقصودة هو الفساد الذي صنعوه بالأرض التي كانت في حضانة الإسلام، وسبحانه قد قال: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} فمادام يوجد عباد الله خالصوا الإيمان وأعدوا العدة فلابد أن يتحقق وعد الله، لكن إذا ما تخلى الناس عن هذا الوصف؛ فعلى الناس الذين يعانون من إفساد بني إسرائيل أن يتلقوا ما قاله الله: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} [الإسراء: 6].
فكأن الكّرَّة لا ترد إلا إذا كان القوم المؤمنون على غير مطلوب الإيمان. فإذا ما تساءل بعض المؤمنين: ولماذا تجعل يا الله الكّرَّة لبني إسرائيل؟. تكون الإجابة: لأنكم أيها الناس قد تخلفتم عن مطلوب العبودية الخالصة لله. ومادمنا قد تخلفنا عن مفهوم «عباد الله» فلابد أن تحدث لنا تلك السلسلة الطويلة التي نعرفها من عدوان بني إسرائيل. ونحن الآن في مواجهة اليهود في مرحلة قوله الحق: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} [الإسراء: 6].
فإذا كنا عبادًا لله فلن يتمكنوا منا. والله سبحانه وتعالى حينما يتكلم بقضية قرآنية فلابد أن تأتي القضية الكونية مصدقة لها.
ولو استمر الأمر دون كرّة من اليهود علينا، بينما نحن قد ابتعدنا عن منهجنا وأصبح كل يتبع هواه، لكانت القضية القرآنية غير ثابتة. ولكن لابد من أن تأتي أحداث الكون مطابقة للقضية القرآنية. ولذلك رأينا أن بعض العارفين الذين نعتقد قربهم من الله حينما جاء أحدهم خبر دخول اليهود بيت المقدس سجد لله.
فقلنا: «أتسجد لله على دخول اليهود بيت المقدس». فقال: نعم. صدق ربنا لأنه قد قال: {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} هكذا قال الحق، وهل يكون دخول لثاني مرة إلا إذا كان هناك خروج من أول مرة؟. لقد حمد ذلك العارف بالله ربنا لأن قضايا القرآن تتأكد بالكونيات، فإذا ما قال الحق: {رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة} [الإسراء: 6].
فليست المسألة أنهم لكونهم يهودًا لا يعطيهم الله الكّرَّةَ. ولكن القضية هي أننا عندما نكون عبادًا لله حقيقة.. اعتقادا وسلوكا.. قولا وعملا ننتصر عليهم. {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6].
وهم أغنياء لأنهم يديرون معظم حركة المال في العالم المعاصر.
ولأنهم جميعًا في الجيش المدافع عن دولتهم. وذلك معنى بنين وأكثر نفيرا. النفير هو ما يستنفره الإنسان لنجدته؛ لأن قوة ذاته قاصرة عن الفعل. واليهود ليسوا قوة ذاتية بمفرد دولتهم، ولكن وراءهم أهم قوى في العالم المعاصر.
إذن فقوله الحق: {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ} [الإسراء: 6].
قول صدق وحق.
وقوله الحق: {وَبَنِينَ} [الإسراء: 6].
قول صدق وحق.
وقوله الحق: {وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا} [الإسراء: 6].
قول صدق وحق.
ثم بعد ذلك يحسم الله قضيته ويقول لليهود: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7].
وهل تستمر الكرَّة يا رب؟.
لا. فها هوذا الحق سبحانه يقول: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} [الإسراء: 7].
كأن الحق يعطينا البشارة بأننا سننتصر؛ ويكون الانتصار مرهونا بتنفيذ القاعدة التي شرعها الله بأن نكون عبادًا لله حقا، عندئذ سَيَكِلُ الله لنا تنفيذ وعده لليهود: {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} [الإسراء: 7].